مناهج قراءة التراث

 المنهج البحثي الصحيح سبيل لخلق حياة فكرية ثرية

منهج البحث الصحيح في التراث


مقدمة:

مما ينبغي على علمائنا وباحثينا وطلبتنا اكتشاف منهج في البحث يكون سبيلا وطريقا في خلق حياة فكرية ثرية وخصبة، تقوم على ما بأيدينا من تراث، وليس على الاقتباس الذي أبطل عقولنا في كل فروع من فروع المعرفة، حيث اتكأنا على ما كافحت في استخراجه عقول الآخرين.

وصار محصول ما بين أيدينا كما وصفه الأستاذ محمود شاكر:

((ترديدا لقضايا غريبة، صاغها غرباء، صياغة مطابقة لمناهجهم، ومنابتهم، ونظراتهم، في كل قضية، واختلط الحابل بالنابل.. قل ذلك في الأدب، والفلسفة، والتاريخ، والفن، أو ما شئت، فإنه صادق صدقا لا يتخلف، فالأديب مصور بقلم غيره، والفيلسوف مفكر بعقل سواه، والمؤرخ ناقد للأحداث بنظر غريب عن تاريخه، والفنان نابض قلبه بنبض أجنبي عن تراث فنه)). مجلة الثقافة العدد 60 مقال المتنبي...ليتني ماعرفته. ص 16.

واقع منهجنا الحالي:

منهج سقيم وعليل:

لاريب أن موقفنا من خلق حياة فكرية صحيحة موقف ليس صحيحا، وأصل ذلك موقفنا من تراثنا، لأن قصارانا أن نقول فيه: إن مراد القائل هو كذا، ونقف من أفكار علمائنا موقف التلميذ من الدروس التي يجب أن يفهمها، وليس موقف الاستاذ الذي يتدسس بعقله، وفطنته، وثقافته، وأستاذيته، في بطون الحقائق ليستحرج منها ما أجنت وما أكنت، وأن يمد ويبسطه فيصبح بين يديه حقيقة ذات أبعاد.

ونحن أقصى ما نعتقده في تراثنا بعد قراءتنا له:

 أننا حين نبين مراد القائل، نكون قد وصلنا إلى قراره، وأفرغناه من كل مافيه فإذا أردنا أن نكون من ذوي المناهج العلمية، قلنا:

( إن هذه الفكرة في كلامه أصلها عند فلان وأنه أخذها، ولم ينتبه، وأنه حين يقول "قال بعضهم" إنما يريد فلانا، إلى آخر ما تجدنا نهتم به، ثم نعتقد أننا لم ندع من الأمر شيئا إلا كشفناه ولهذا شاع القول بأن التراث قد درس، وأن فلانا من المحدثين كتب عن فلان من القدماء، وهذا كله قاصر جدا في ضوء ما يجب أن يكون عليه المنهح الصحيح.

الانتظار وتلمس الشبه:

وهناك أسلوب آخر شائع وأصبح يطغى على بعضنا في تناوله للتراث ويصطنعه كثير من أهل العلم، وهو: أن نطالع ما عند الناس ثم نعود إلى تراثنا نتلمس ما يمكن أن يكون شبيها بهذه الأفكار، سواء أكان الشبه مقاربا، أو مما نتأتى له بشيء من الحيلة والمسامحة.

المحصلة:

والمحصلة أن نقول: إن فلانا مثلا سبق المحدثين في القول بكذا، وأن فلانا فطن إلى النظرية الفلانية. 

وهذا الطريق وإن كان يرضي زهونا التاريخي، وخاصة بعد ما ألح على عقولنا القول بفساد تراثنا  حتى استيئسنا، وظننا أننا قد كذبنا حين اعتقدنا أننا أبناء أمة عريقة.

إن هذا المنهج، وإن كان يرضي غرورنا فليس لنتائجه قيمة علمية، لأن العلم لا يتقدم بهذا قيد أنملة، وإنما علينا فقط أن ننتظر حتى يقول الذين يتكئون على عقولهم كلاما جديدا، في شأن من شؤؤون الفكر والأدب- وفي أي مجال- ثم نخرج من الذي عندنا شيئا يشبهه، وكأننا نقول بلسان الحال: إذا كنا عاجزين عن أن نقول مثل ما تقولون، فقد قال آباؤنا مثله، وأن فكركم هو الذي استبد بالعصر مهما جد فلن يقع بعيدا عن أعتاب آبائنا.

ثم إن ثمة شيئا آخر يحدث في هذا الباب، هو: أن الأفكار التي نقول" عندنا مثلها" سرعان ما ينبذها أصحابها، ويتجاوزونها، ويأتون بشيء جديد، وهم في هذا ماضون على طريقتهم من الجد، والاتكاء على عقولهم، وعلينا إذن أن نخرج هذا الشيء الثاني من تراثنا.

هذه الطريقة قد استهلكت جهودا كثيرة من كتابنا.

الصواب هو: 

أن نستخرج من تراثنا ما تهدينا إليه عقولنا، وافق الذي عند غيرنا أم لم يوافق، المهم أن يوافق صريح عقولنا، وأن نرضاه ونستحسنه نحن، بعيوننا، وعقولنا، وأن نجد فيه كفاء لحاجتنا الفكرية والأدبية، وهذا مطلب عزيز، وإنما ينال بالصبر والمجاهدة.

علينا أن نعود إلى كلام الكبار من العلماء الأوائل، وأن نطيل النظر فيه غير مستهدفين استيعابه فقط لأن الاستيعاب وحده لا يقدم ولا يؤخر فيما نحن فيه وإنما لنستخرج خبأه، ونبعث الفكرة من وراء الفكرة، ونستل الخيوط المضمرة من غيبها، ونمدها لننسج كلاما آخر هو منها، ولكنه غيرها.... وهكذا فعل الكبار.

انظر الى تجربة أبي الفتح في كتاب الخصائص وكيف استخرج من كلام سيبويه  وأبي علي  وغيرهما علما ليس هو علم سيبويه ولا علم الفارسي، وإنما هو علم أبي الفتح، وكما استخرج عبد القاهر من مضابئ النحو علما آخر هو علم المعاني استخرج أبو الفتح من هذه المضابئ نفسها علما آخر هو علم أصول النحو وقياس العربية، وهو عند ابن جني" أشرف ما صنف في علم العرب، وأذهبه في طريق القياس والنظر...وأجمعه للأدلة على ما أودعته هذه اللغة الشريفة من خصائص الحكمة  ونيطت به من علائق الإتقان والصنعة"(مقدمة الخصائص).

المنهج ليس هو استخراج المعارف السطحية:

إن استخراج مناهج هؤلاء الاعلام  ليس هو هذا التهاون الذي نجده في الكتب التي صنفت عنهم، والتي نكتب فيها فصلا عن المنهج  نكتب فيه عادة حقائق مثل: أن هذا العالم كان ينسب الرأي إلى صاحبه، يكون بصريا في مسألة، أو كوفيا في مسألة، أو أنه من مدرسة المتأدبين، أو أنه من مدرسة المتكلمين...... وغير ذلك من هذه المعارف السطحية  والتي يقع القارئ المبتدئ.

لا بد أن يكون دارس منهج العالم من هؤلاء الأعيان قد فطن لكل كلمة قالها، ووعاها وعيا يستطيع به أن يقفو أثرها حتى يصل بها إلى منابتها في كلام من سبقه، أو يصل بها إلى انبثاقها في نفسه، ثم يصف بدقة قصة الفكرة في عقل هذا العالم وكيف نماها، ومن أي جهاتها جذبها حتى امتدت، وكيف مخضها حتى أخرج محضها، وغير ذلك مما تجده حيا واضحا بين عينيك حين تديم النظر في كلامهم وتعطيه حقه من العناية والصبر.

المنهج المقصود علم ينهض به الشيوخ وليس المبتدؤون:

هذا الباب الذي هو علم مناهج البحث في علوم العربية لا يجوز أن ينهض به المبتدئ مهما كان إخلاصه، ومهما كان جده وذكاؤه، وإنما ينهض به الشيوخ من علمائنا، الذين عكفوا الفكر على هذه العلوم، وانجذبت روياهم إليها، لأنها ليست دراسة في كلام العلماء، وإنما هي نظر في منابع علومهم وترقيق أفكارهم بحركة عقولهم، وارتياض قلوبهم للذي ارتاضته من عصية، ومعاناة أفئدتهم في اقتناص نافره، وتأليف شارده، ولا أقل من أن نحفظ لهؤلاء حرماتهم،  ونبعد بهم عن هذا اللغو اللاغب الذي ضرب على عقولنا، ولا ننتدب لدراسة هذا الجانب في تراتهم إلا من كان أشبه بهم هديا وسمتا.

ما بين مقولتي الجمود والتجديد:

والغريب أن هذا التراث المنطوي على عناصر تستهدف إثارة أقدس ما في الإنسان من طاقات خلاقة ومبدعة، يوصف بالجمود، ويوصف المحافطون عليه بالجمود والتخلف، وأنهم يريدون أن يرجعوا بنا إلى الوراء" تخب بنا النجيبة والنجيب" وأنه ترسخ في نفوسهم أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، وأن عيونهم لا ترى أضواء العصر الباهرة، إلى آخر ما تجده في كتابات تذيل أسماء كاتبيها بأنه رئيس قسم كذا في جامعة كذا،وهذا دليل قاطع على أن القيم الإبداعية في تراث الأمة مطمورة مغيبة عن عيون علمائها.
وليس هذا تقصيرا فحسب، وإنما هو أمر منكر، لا تجده إلا عندنا، .....ومن أهم ماغرس هذا الخطأ في النفوس ارتباط كلمات التطور والتجديد والحداثة والمعاصرة بالأخذ عن الحضارة الغربية، وكلمة التجديد ارتبطت ارتباطا وثيقا بأمرين:
1- الرمي في وجه القديم بعد قتله بحثا.
2- إغراء العقول بالفكر الغربي والترويج له ترويجا ظاهرا.
......مع ظهور ذلك كله فقد نفذت هذه الأفكار وغذت القلوب والعقول، وشكلت وجهة نظر جيل كامل، أصبح الآن قائما على أمر العلم والفكر والأدب في الجامعات وغيرها، وقد صحبت هذه الأفكار جلجلة جهيرة بأستاذية قائليها، وريادتهم، وعلمهم الواسع بالتراث وجهادهم في سبيل تجديده، ومحاماتهم الشديدة عن القديم وغيرتهم عليه من عقلية الشيوخ،......وبهذا ومثله كثير، ارتبط التجديد في نفوسنا يالأخذ عن الغرب، وارتبط التراث في نفوسنا بمجافاة التجديد ثم الإغراق في الجمود والدوران في الدائرة المغلقة" محلك سر".
ومن ثم قد غابت عن الأذهان فكرة انبثاق الجديد من غيب القديم وإشاعة طرائق المفكرين المسلمين، واجتهادهم وجهودهم في خبق المعرفة، وقدراتهم الفائقة على تطويرها، وكيف كانوا يصبون عقولهم على القليل الخافت فيصبح كثيرا نافعا، وكيف شقت عقولهم حجب الغيب عن خير كثير، إلى آخر ما يلفت إلى تلك الطاقة الهائلة في التراث والتي هي قادرة لو أتقن اصطناعها، على إثارة ما أودع الله في فطرة الإنسان من طاقات، وابتعاث شصعل القلوب والعقول تسطع وتدفئ،على الحد تجلى.... كل ذلك مسكوت عنه، ومضت البحوث والكتب على ما صيغت عليه العقول من النمط والمنوال الذي ذكرنا.
وكل من أراد أن يكون ابن عصره مجددا متحررا مستنيرا، يسوق كلام الفدماء في مسألة، ثم يعلق عليه بأنه صادر عن فقدان الوعي بكذا وكذا وكذا .......إلى آخر ما ترى .... ثم يذكر في المسألة نصا مقتبسا ويعلق عليه، بأنه تحليل جيد لكذا أو فهم نافذ ووعي عميق إلى آخر ما تقرأ.
وهذا الأسلوب في الكتابة سهل جدا ....وهذه التعليقات بالحق أو بالباطل أيسر بكثير من الوقوف على النص لتفصيل مجمله، وتوضيح مبهمه، وتجلية جوهره إلى آخر ما يعانيه أهل العلم في كل أمة.
إن كتابة الكتاب من هذا النوع المتجدد المتطورلأيسر بكثير من فهم باب من كلام العلماء الأولين في الأدب أو الفلسفة أو البلاغة أو أي علم من العلوم.
وصدقني إن قلت لك أنك تستطيع أن تكتب من هذا اللون بحوثا ومقالات، تشغل بها اناس من غير أن تشعر بالرهق الذي يكاد يخلع نفسسك، وأنت نصا لبهاء الدين السبكي مثلا.
وهو مقتبس من كتاب" القوس العذراء وقراءة التراث " للدكتور محمد محمد أبو موسى.
كتبه ولخصه: محمد سكرطاح .

سواء السبيل

سواء السبيل مدونة لتقديم المعلومة الدينية والثقافة الفقهية المالكية بطريقة سهلة ومبسطة وموثقة.

1 تعليقات

Please Select Embedded Mode To Show The Comment System.*

أحدث أقدم

نموذج الاتصال