الدين ليس حرفة!!!
الدين ليس حرفة و لا يصلح لأن يكون حرفة . و لا توجد في الإسلام وظيفة اسمها رجل دين.
و مجموعة الشعائر و المناسك التي يؤديها المسلم يمكن أن تؤدى في روتينية مكررة فاترة خالية من الشعور ، فلا تكون من الدين في شيء .
و ليس عندنا زي اسمه زي إسلامي .. و الجلباب و السروال -والمظهر وحتى اللحية احيانا- أعراف وعادات يشترك فيها المسلم و البوذي والمجوسي و الدرزي .. و مطربو الديسكو و الهيبي لحاهم أطول .. و أن يكون اسمك محمدا أو عليا أو عثمان ، لا يكفي لتكون مسلما.
و ديانتك على البطاقة هي الأخرى مجرد كلمة.
والسبحة والتمتمة والحمحمة ، وسمت الدراويش وتهليلة المشايخ أحيانا يباشرها الممثلون بإجادة أكثر من أصحابها،والرايات واللافتات والمجامر والمباخر والجماعات الدينية أحيانا يختفي وراءها التآمر و دالمكر السياسي والفتن والثورات التي لا تمت إلى الدين بسبب .
ما الدين إذن … ؟!
الدين حالة قلبية .. شعور .. إحساس باطني بالغيب .. و إدراك مبهم ، لكن مع إبهامه شديد الوضوح بأن هناك قوة خفية حكيمة مهيمنة عليا تدبر كل شيء . إحساس تام قاهر بأن هناك ذاتا عليا .. و أن المملكة لها ملك .. و أنه لا مهرب لظالم و لا إفلات لمجرم .. و أنك حر مسئول لم تولد عبثا و لا تحيا سدى وأن موتك ليس نهايتك .. و إنما سيعبر بك إلى حيث لا تعلم .. إلى غيب من حيث جئت من غيب .. و الوجود مستمر .
و هذا الإحساس يورث الرهبة والتقوى والورع، ويدفع إلى مراجعة النفس ويحفز صاحبه لأن يبدع من حياته شيئا ذا قيمة ويصوغ من نفسه وجودا أرقى وأرقى، كل لحظة متحسبا لليوم الذي يلاقي فيه ذلك الملك العظيم .. مالك الملك .
هذه الأزمة الوجودية المتجددة والمعاناة الخلاقة المبدعة والشعور المتصل بالحضور أبدا منذ قبل الميلاد إلى ما بعد الموت .. والإحساس بالمسئولية و الشعور بالحكمة والجمال والنظام والجدية في كل شيء .. هو حقيقة الدين .
العبادات والطاعات شواهد وأثر:
تأتي العبادات و الطاعات بعد ذلك شواهد على هذه الحالة القلبية .. لكن الحالة القلبية هي الأصل .. و هي عين الدين و كنهه و جوهره .
و ينزل القرآن للتعريف بهذا الملك العظيم .. ملك الملوك .. وبأسمائه الحسنى وصفاته وأفعاله وآياته ووحدانيته.
و يأتي محمد عليه الصلاة والسلام ليعطي المثال والقدوة. وذلك لتوثيق الأمر وتمام الكلمة .
و لكن يظل الإحساس بالغيب هو روح العبادة وجوهر الأحكام والشرائع ، وبدونه لا تعني الصلاة ولا تعني الزكاة شيئا .
و لقد أعطى محمد عليه الصلاة والسلام القدوة والمثال للمسلم الكامل، كما أعطى المثال للحكم الإسلامي والمجتمع الإسلامي .. لكن محمدا عليه الصلاة و السلام و صحبه كانوا مسلمين في مجتمع قريش الكافر .. فبيئة الكفر، ومناخ الكفر لم يمنع أيا منهم من أن يكون مسلما تام الإسلام .
و على المؤمن أن يدعو إلى الإيمان ، ولكن لا يضره ألا يستمع أحد ، و لا يضره أن يكفر من حوله، فهو يستطيع أن يكون مؤمنا في أي نظام و في أي بيئة .. لأن الإيمان حالة قلبية، والدين شعور وليس مظاهرة، والمبصر يستطيع أن يباشر الإبصار ولو كان كل الموجودين عميانا، فالإبصار ملكة لا تتأثر بعمى الموجودين، كما أن الإحساس بالغيب ملكة لا تتأثر بغفلة الغافلين ولو كثروا بل سوف تكون كثرتهم زيادة في ميزانها يوم الحساب .
الحالة القلبية هي الفرق بين الدين والتدين.
إن العمدة في مسألة الدين و التدين هي الحالة القلبية.
ماذا يشغل القلب .. وماذا يجول بالخاطر ؟ وما الحب الغالب على المشاعر؟ ولأي شيء الأفضلية القصوى؟ وماذا يختار القلب في اللحظة الحاسمة؟ وإلى أي كفة يميل الهوى ؟
تلك هي المؤشرات التي سوف تدل على الدين من عدمه .. و هي أكثر دلالة من الصلاة الشكلية ، ولهذا قال القرآن .. و لذكر الله أكبر ..أي أن الذكر أكبر من الصلاة .. برغم أهمية الصلاة.
و لذلك قال النبي عليه الصلاة و السلام لصحابته عن أبي بكر .. إنه لا يفضلكم بصوم أو بصلاة و لكن بشيء وقر في قلبه .
و بهذا الشيء الذي وقر في قلب كل منا سوف نتفاضل يوم القيامة بأكثر مما نتفاضل بصلاة أو صيام .
إنما تكون الصلاة صلاة بسبب هذا الشيء الذي في القلب
. و إنما تكتسب الصلاة أهميتها القصوى في قدرتها على تصفية القلب وجمع الهمة وتحشيد الفكر وتركيز المشاعر .
وكثرة الصلاة تفتح هذه العين الداخلية وتوسع هذا النهر الباطني، وهي الجمعية الوجودية مع الله التي تعبر عن الدين بأكثر مما يعبر أي فعل. و هي رسم الإسلام الذي يرسمه الجسم على الأرض، سجودا، وركوعا وخشوعا وابتهالا، وفناء ..
يقول رب العالمين لنبيه :
{كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ}
و بسجود القلب يتجسد المعنى الباطني العميق للدين، وتنعقد الصلة بأوثق ما تكون بين العبد والرب. وبالحس الديني، يشهد القلب الفعل الإلهي في كل شيء .. في المطر و الجفاف ، في الهزيمة والنصر ، في الصحة والمرض ، في الفقر والغنى ، في الفرج والضيق .. وعلى اتساع التاريخ يرى الله في تقلب الأحداث و تداول المقادير.
و على اتساع الكون يرى الله في النظام و التناسق والجمال ، كما يراه في الكوارث التي تنفجر فيها النجوم و تتلاشى في الفضاء البعيد و في خصوصية النفس يراه فيما يتعاقب على النفس من بسط و قبض، وأمل وحلم، وفيما يلقى في القلب من خواطر وواردات ..
حتى لتكاد تتحول حياة العابد إلى حوار هامس بينه وبين ربه طول الوقت ..حوار بدون كلمات ..
لأن كل حدث يجري حوله هو كلمة إلهية و عبارة ربانية، و كل خبر مشيئة، و كل جديد هو سابقة في علم الله القديم .
و هذا الفهم للمشيئة لا يرى فيه المسلم تعطيلا لحريته ، بل يرى فيه امتدادا لهذه الحرية .. فقد أصبح يختار بربه، و يريد بربه، ويخطط بربه ، و ينفذ بربه .. فالله هو الوكيل في كل أعماله . بل هو يمشي به ، و يتنفس به ، و يسمع به، و يبصر به، و يحيا به .. و تلك قوة هائلة و مدد لا ينفد للعابد العارف، كادت أن تكون يده يد الله وبصره بصره ، وسمعه سمعه، وإرادته إرادته .
إن نهر الوجود الباطني داخله قد اتسع للإطلاق .. وفي ذلك يقول الله في حديثه القدسي :
(( لم تسعني سماواتي و لا أرضي و وسعني قلب عبدي المؤمن )) .
الكدح الى الله!!
هذا التصعيد الوجودي ، و العروج النفسي المستمر هو المعنى الحقيقي للدين .. و تلك هي الهجرة إلى الله كدحا .
(( يا أَيُّهَا الإنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ))
ولا نجد غير الكدح كلمة تعبر عن هذه المعاناة الوجودية الخلاقة، والجهاد النفسي صعودا إلى الله .
هذا هو الدين .. وهو أكبر بكثير من أن يكون حرفة أو وظيفة أو بطاقة أو مؤسسة أو زيا رسميًا .
---
بقلم: د. مصطفى محمود رحمه الله . .
من كتاب: الإسلام ما هو ؟
=
