خطبة الجمعة: الرشوة


 خطبة بعنوان: ظاهرة الرشوة 

لبسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه


الحمد لله الذي علمنا بسيرة المصطفىﷺ حسن الدعوة، فحرم أكل أموال الناس بالباطل والرشوة، وأشهد أن لا إله إلا الله يسر لنا دينا وسطا بين الليونة والقسوة، لا إفراط فيه ولا تفريط؛ وكلاهما خطيئة وكبوة، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي نجح في كل خطوة، فبما رحمة من الله لان في سلمه وحينما يقود في الحرب غزوة، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ذوي الصفاء والصفوة، وعلى التابعين لهم بإحسان مادام المسلمون يرددون "الله أكبر" في كل روحة وغدوة. 


أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون؛ أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته. 

دعونا اليوم نرجع بكم مرة أخرى إلى السيرة النبوية العطرة، نستكشف مزيدا من محاسنها وأسرارها، ونصلح مزيدا من مشاكل مجتمعنا بفقهها؛ (في إطار توظيف السيرة النبوية في عملية الإصلاح)؛ فهي منبع سيال لا ينضب معينها، ومدرسة عظيمة تنوعت أبحاثها وشعبها، لا يشبع منها الباحث مهما غاص في بحارها، ولا يمل منها الدارس مهما سار في فجاجها.

ومن السيرة النبوية نلخص قصة هذه الواقعة، لنستخلص منها وصفة علاج لما نعاني منه واقعا؛ مضمونها: لما دخل هلال شهر محرم وهو بداية السنة التاسعة الهجرية بعد فتح مكة، بعث رسول اللهﷺ إلى القبائل العربية التي أسلمت، عددا من عماله يجمعون له الزكوات والصدقات، حتى يوزعها بعدل وإنصاف على الفقراء والمساكين، وقد جعلها الله تعالى حقا معلوما من مال الأغنياء لصالح الفقراء، وكانﷺ يستوفي الحساب من العمال بنفسه، يحاسبهم على المدخول والمصروف. وكان من بين من أرسل صحابي اسمه عبد الله بن اللتبية؛ فقد أخرج البخاري ومسلم أنهﷺ كلفه بجمع الصدقات، فلما جاء بها بدأ يقول: هذا للصدقة، وهذه هدية أهديت إلي، فاستدعى الأمر خطبة طارئة من النبيﷺ حتى يربي ويصلح الخطأ، فقام على المنبر فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: «ما بال عامل أبعثه، فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقا؟ والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر» ثم رفع رسول اللهﷺ يديه إلى السماء فيقول: «اللهم هل بلغت». 

أيها الإخوة المؤمنون؛

 من خلال هذه القصة نكشف الستار عن قضية خطيرة في مجتمعنا، هي داء عضال تهلك الأخضر واليابس، إنها عدو تفسد الأخلاق، وتلوث الأذواق، وتنجس الأرزاق، إنها عدو للإنسانية، عدو للأنقياء الأتقياء الأصفياء، إنها دليل على الشره والطمع، والسفه والجشع، كم من حقوق لعباد الله ضاعت بها! وكم من حكم لله عطل بها! وكم من باطل أصبح بها حقا! وكم من حق أصبح بها باطلا! وكم من رفيع وضعته! وكم وضيع رفعته! وكم من نفس مظلومة حولتها إلى ظالمة! وكم من ظالمة أصبحت بها مظلومة! وكم من كسول تبوأ بها المناصب المرموقة التي لا تليق به، لقد بيعت بها الأصوات والكراسي والمناصب، واشتريت بها الذمم والهمم والضمائر، لقد ضاعت بها الأمانة، وانتشرت بها الخيانة، وانتهكت بها الحرمات، وضاعت بها الفرائض، واعتدي بها على حدود الله. 

يا ما أُسِّدت الأمور بسببها لغير أهلها! يتحاشى حتى أولئك الغارقون فيها، والمتعاملون بها ذكرها وتسميتها؛ فمنهم من يسميها: (شي بركة) وهي ممحوقة من كل بركة! ومنهم من يسميها: ومنهم من يسميها: (هدية) وقد زاغت عن الهداية! ومنهم من يتعاطاها على أنها: (شبهة الإحسان) حتى يقع في شبكة الخسران المبين! ومنهم من يسميها: (الطاجين) وإنما هي تدجيل وتدجين! ومنهم من يسميها: (القهوة) وإنما هي فساد بالشره والشهوة! ومنهم من يسميها: (التدورة) أو (دهن السير إسير) فعلا ستسير به إلى اللعنة...!

أتدرون ما هي هذه القضية الخطيرة؟ إنكم الآن عرفتموها؛ إنها الرشوة والارتشاء! إنها الوجوه المشبوهة المشوهة! إنها الوساطة والمحسوبية! إنها الزبونية والزبانية! لقد اتفقت أمم الأرض كلها، وأنظمتها جميعها، وكل الشرائع بأنواعها وأشكالها، سماوية وأرضية على أن الرشوة جريمة خطيرة، وصاحبها مجرم أخطر، يستوجب العقوبة دنيا وأخرى، ولا توجد في الدنيا دولة تجيز في قوانينها الرشوة مهما كانت عقيدتها، ورغم ذلك فقد مرضت بها أيدينا فطغت على معاملاتنا، ونجست بأثرها السيئ طهارة قلوبنا، وكدرت صفاء أموالنا، ولوثت في العالم سمعة بلادنا، لقد اختلط بها الحلال بالحرام فجعلتنا نعرض أنفسنا يوم القيامة لحساب عسير: من أين اكتسبنا هذا المال؟ وفيما أنفقنا هذا المال؟ 

والطامة الكبرى أن الرشوة لم تدخل معاملاتنا فقط؛ بل تسربت إلى عباداتنا أيضا، يكفي أن تظهر الأموال في عبادة مَّا لتطل الرشوة برأسها الشيطاني.

فيما يخص عبادة الحج من الناس من يجعل العمرة والحج رشوة؛ فيأخذ الذين يقضون له الأغراض هنا لأداء الحج والعمرة! 

وفيما يخص الزكاة قد جاءني سؤال مند سنوات يقول صاحبه وهو تاجر: في الأيام التي أخرج فيها الزكاة، يأتي إلي بعض الناس يطلبون مني الزكاة، وربما يأتني أحدهم بسيارة من النوع الممتاز، فإذا كنت أدفع درهما فأقل للمسكين الذي يأتي إلي يسعى ماشيا، فإني أضطر لأدفع مائة درهم فأعلى لمثل هذا الذي يأتي إلي يسعى راكبا؛ لأن مصالحي وأغراضي تمر تحت أيديهم، وإلا فإن مصالحي سوف تتعطل، وأغراضي سوف لا تقضى، وهل يعتبر ما أدفع لهم زكاة أم لا؟ 

وحق لنا أن نقول: الحمد لله حين لم تكن بقية العبادات مقرونة بالأموال؛ تصوروا ماذا سيحدث لو كانت الصلاة تدر مالا، أو كان الصيام معروضا للبيع والشراء؟    

أيها الإخوة المؤمنون:

 إن حكم الله تعالى وحكم المجتمع والتاريخ على من يأخذ الرشوة أو يدفعها، أو يتوسط من أجلها واضح وجلي، إنه اللعنة والطرد والإبعاد؛ روى أبوداود والترمذي عن عبد الله بن عمرو قال: «لعن رسول اللهﷺ الراشي والمرتشي» وفي رواية الإمام أحمد عن ثوبان قال: «لعن رسول اللهﷺ الراشي والمرتشي والرائش» أي الذي يأخذ الرشوة، والذي يدفعها، والذي توسط من أجلها، فالكل ملعون ومطرود من رحمة الله، روى الطبراني أن النبيﷺ قال: «الراشي والمرتشي في النار»، وروى الإمام أحمد عن عمرو بن العاص أن الرسولﷺقال: «ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنة، (أي سنوات الجدب والقحط) وما من قوم يظهر فيهم الرّشا إلا أخذوا بالرعب»؛ وأول هذا الرعب أن صاحبها يأخذها أو يدفعها في خفة وخفاء خوفا من أن يراه الناس؛ فتراه يراقب عيون الناس حتى لا يراه أحد، فيتسلمها أو يسلمها، في اختلاس وخفة وخفاء، كأنه يقضي حاجته في المرحاض، ولا شك أن هذا من فعل الجبناء، وهي والله أنثن من نجاسات المرحاض، تجعل صاحبها منتن الأخلاق، فاسد الأذواق، خبيث الأعماق. 

أتحدى من يسمها إحسانا أو هدية أن يأخذها في العلن، أو يرفعَ بها رأسه، ولهذا سماها القرآن الكريم باسمها الصحيح الموافق، سماها إثما وباطلا وسحتا والعرض الأدنى من الدناءة وهي الخبث والخسة وصاحبها خبيث وخسيس؛ قال الله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون} وقال تعالى فيمن يتعامل بها من اليهود: {سماعون للكذب أكالون للسحت} وقال تعالى: {يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتيهم عرض مثله يأخذوه}. 

يا من يسمي الرشوة هدية:

هل ترك لك رسول اللهﷺ فيها مدخلا؟ لا تستغل وظيفتك من أجل الرشوة ثم تقول: إنها مجرد إحسان وهدية، هلا جلست في منزلك ثم تنظر هل يقدم إليك أحدهم هدية؟ فلا ينبغي للمسلم أن يكون من الذين يقولون: إن الله غفور رحيم سيغفر لنا لأنه عز في علاه أيضا شديد العقاب، {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ}. فمن كان كذلك فأشياخه هم اليهود الذين قال الله تعالى فيهم: {يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتيهم عرض مثله يأخذوه}. 

فإلى متى نعرض أنفسنا للعنة الله ورسولهﷺ؟ إلى متى نبيع ضمائرنا بالرشوة الحرام؟ إلى متى نغمس أنفسنا في مستنقعات رذائلها؟ إلى متى نستثمر ضمائرنا في الحرام؟ إلى متى نسمي الأشياء بغير مسمياتها؟

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والحمد لله رب العالمين...

الخطبة الثانية:

 الحمد لله رب العالمين… 

أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون! 

حافظوا على سنة نبيكمﷺ في معاملاتكم، أفيقوا أيها الناس، وأعلموا أن البلاد لن تبنى بالرشوة، ولن تصلح بالفساد، وأن الأمم لا تتقدم إلا بالعدل والأمانة، إلا بالثقة والمصداقية، ألا فتمسكوا بتقوى الله عز وجل! ألا فحصنوا بها أنفسكم ضد المتعاملين بالرشوة، لا تكونوا آخذين، ولا دافعين، ولا وسطاء، ألا فكونوا عند قول نبيكمﷺ إذ يقول فيما روى الطبراني: «خذوا العطاء مادام عطاء، فإذا صار رشوة في الدين فلا تأخذوه، ولستم بتاركيه يمنعكم الفقر والحاجة، ألا إن رحى الإسلام دائرة، فدوروا مع الكتاب حيث دار...».

ألا فاتقوا الله عباد الله وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهﷺ...

سواء السبيل

سواء السبيل مدونة لتقديم المعلومة الدينية والثقافة الفقهية المالكية بطريقة سهلة ومبسطة وموثقة.

إرسال تعليق

Please Select Embedded Mode To Show The Comment System.*

أحدث أقدم

نموذج الاتصال