ماالدليل على أن سجود السهو يحمله الإمام عن المأموم؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه ورشده.
النازلة:
وبعد؛ فقد صليت ذات يوم في مسجدي إماما وبعد أن سلمت تفاجأت في الصف الأول بأحدهم سجد سجدتين قبل السلام؛ فلما استفسرته عن ذلك قال: وقع لي سهو عن سُنَّة؛ فلما قلت له: إن الإمام يحمل عنك السهو في السنن، وأنك الآن زدت سجدتين جهلا، والجاهل في باب العبادات كالمتعمد؛ وصلاتك باطلة وجب عليك إعادتها، مستدلا بقول الإمام ابن عاشر: "عن مقتد يحمل هذين الإمام".
قال لي: (من ابن عاشر هذا؟ أريد الدليل من الكتاب والسنة)؛ حينئذ علمت أنه مريض بمرض (الدليل الوسواس الخناس) فدعوت له بالشفاء: "اللهم اشف أنت الشافي شفاء لا يغادر سقما"، فغادرت المسجد وتركته؛ ثم لما راجعت المسألة في مظانها أحببت أن أسجل النتيجة التي توصلت إليها حسب ما يلي:
ملخص الجواب:
قال الألباني: "نحن نعلم يقينا أن الصحابة الذين كانوا يقتدون بهﷺ كانوا يسهون وراءهﷺ سهوا يوجب السجود عليهم لو كانوا منفردين؛ هذا أمر لا يمكن لأحد إنكاره؛ فإذا كان كذلك، فلم ينقل أن أحدا منهم سجد بعد سلامهﷺ، ولو كان مشروعا لفعلوه، ولو فعل لنقلوه، فإذا لم ينقل دل على أنه لم يشرع، وهذا ظاهر إن شاء الله تعالى:"
ونقلت هنا كلام الألباني لأقنع به من ليس يقتنع إلا به؛ مثل هذا الأخ الذي قال لي: "من ابن عاشر هذا؟ أريد الدليل من الكتاب والسنة".
الجواب بتفصيل:
●أولا: لا بد من التنبيه على أمور منها:
• أن الفقهاء حين يطلقون حكما شرعيا مثل قول ابن عاشر: "عن مقتد يحمل هذين الإمام" لا ينطلقون من فارغ الهواء ولا من ابتداع الهوى؛ بل ينطلقون من اعتماد الهدى، لأن أقوالهم لا تخلو من مستند شرعي يكون خلفها ويسند ظهرها.
• أن المسائل الفقهية المتولدة من الوقائع المتجددة لا يمكن الاستدلال لجميعها بالكتاب والسنة؛ ولهذا تتعدت الأدلة الشرعية؛ منها: الأربعة المتفق عليها: القرآن، والسنة، والإجماع، والقياس. ومنها المختلف فيها؛ وهي: الاستحسان، والاستصلاح، واستصحاب الحال، واعتبار المآل، وشرع من قبلنا، وقول الصحابي، والعرف، وعمل المدينة، وسد الذرائع، وفتح الذرائع، ومراعاة الخلاف، والخروج من الخلاف، والأخذ بأقل المقول(1)، والأخذ بالأخف تيسيرا، والأخذ بالأحوط استبراء.
• أن الإمام يحمل عن المأموم السنن مطلقا، ولا يحمل عنه من الفرائض إلا الفاتحة دون بقية الفرائض؛ من النية وتكبيرة الإحرام والقيام لها والسلام والجلوس له والركوع والسجود والاعتدال والاطمئنان(2)؛ فلا بد من الإتيان بها من الطرفين.
● ثانيا: أما الدليل على أن الإمام يحمل السهو عن المأموم؛ فهو السنة والإحماع:
• أما السنة؛ فقد استدل الفقهاء بثلاثة أحاديث: حديثين صحيحين؛ ولكن الاستدلال بهما تأويل(3) عن طريق "دلالة الالتزام"(4)، وثالثها الاستدلال به منطوق(5) عن طريق "دلالة المطابقة"(6)؛ لكنه حديث ضعيف.
1) ما روى الإمام مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي -رضي الله عنه- أنه تكلم خلف النبيِﷺ جاهلا بتحريم الكلام في الصلاة، ثم لم يأمره النبىﷺ بسجود السهو(7)، كما قال البيهقي(8)؛ فلزم منه أن الإمام يحمله عنه.
2) ما روى أبو داود والترمذي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول اللهﷺ قال: «الإمام ضامِن، والمؤَذِّنُ مؤتَمَن؛ اللهم أرْشِدِ الأئمَةَ واغْفِرْ للمؤذِّنين»(9).
قال الإمام الخطابي: "وقد تأوله قوم على معنى أنه يتحمل القراءة عنهم"(10).
وقال ابن العربي في الضمان: "يأتي بمعنى الوِعاء؛ فقد دخلت صلاة المأموم في صلاة الإمام، لِتَحَمُّلِ القراءة عنه، والقيام، إلى حسنِ الركوع والسجود والسهو؛ ولذلك لم تجز صلاة المتنفل خلف المفترض؛ لأن ضمان الواجب بما ليس بواجب محال. وهذه فائدة"(11)؛ فالضامن يلزم منه المضمون، والمضمون هو ما يحمل الإمام عن المقتدين به من القراءة وسجود السهو(12).
3) ما روى الدارقطني، عن عمر -رضي الله عنه- عن النبيﷺ قال: «ليس على مَن خلف الإمام سهو؛ فإن سها الإمام فعليه وعلى من خلفه السهو، وإن سها من خلف الإمام فليس عليه سهو والإمام كافيه»(13)؛ ضعفه البهيقي وابن حجر وغيرهما(14)، وعزاه الصنعاني في "سببل السلام" للترمذي؛ قال الألباني: "هو وهم لعله من بعض النساخ والله أعلم"(15)؛ ولكن الألباني وقع في نفس الوهم حين قال بأن ابن حجر أيضا عزاه للترمذي في بلوغ المرام، وليس كذلك؛ وإنما قال ابن حجر: "رواه البزار والبيهقي بسند ضعيف" ولم يأت على ذكر الترمذي(16).
• أما الإجماع؛ فقد أجمع العلماء على أن من سها خلف إمامه فلا سجود عليه، ولم يخالف في ذلك حسب ما وقفت عليه إلا خمسة من الأئمة فقالوا: عليه سجود السهو؛ وهم: مَكْحُول بن عبد الله الهُذَلي التابعي، وحماد بن أبي سليمان الكوفي التابعي، والليث بن سعد المصري، والهادي يحيى بن الحسين من المذهب الزيدي(17)، وإليه مال محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني فقال: "ولو ثبت هذا الحديث لكان مخصصا لعمومات أدلة سجود السهو، ومع عدم ثبوته فالقول قول الهادى"(18)؛ يقصد الإمام الهادي الزيدي.
قال مالك الأكبر في المدونة: "وإن كان مع الإمام فإن الإمام يحمل ذلك عنه"(19). وقال مالك الأصغر (ابن أبي زيد) في رسالته: "وكل سهو سهاه المأموم فالإمام يحمله عنه؛ إلا ركعة أو سجدة أو تكبيرة الإحرام أو السلام"(20). وقال الشيخ خليل في مختصره: "ولا سهو على مؤتم حالة الْقَدْوَةِ"(21). وقال ابن عاشر في منظومته: "عن مقتد يحمل هذين الإمام"(22). وبهذا قال بقية المذاهب الأربعة(23).
وفي الأخير قال الألباني: "نحن نعلم يقينا أن الصحابة الذين كانوا يقتدون بهﷺ كانوا يسهون وراءهﷺ سهوا يوجب السجود عليهم لو كانوا منفردين؛ هذا أمر لا يمكن لأحد إنكاره؛ فإذا كان كذلك، فلم ينقل أن أحدا منهم سجد بعد سلامهﷺ، ولو كان مشروعا لفعلوه، ولو فعل لنقلوه، فإذا لم ينقل دل على أنه لم يشرع، وهذا ظاهر إن شاء الله تعالى"(24).
ونقلت هنا كلام الألباني لأقنع به من ليس يقتنع إلا به؛ مثل هذا الأخ الذي قال لي: "من ابن عاشر هذا؟ أريد الدليل من الكتاب والسنة".
والله أعلم وهو سبحانه الموفق للصواب.
● الهامـــــــــــش:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أورده الباجي في إحكام الفصول في أحكام الأصول: (ص: 618) وممن ذهب إلى الأخذ به الإمام الشافعي والباقلاني والقاضي عبد الوهاب البغدادي.
(2) المقدمات الممهدات لابن رشد: (1/198)، والبيان والتحصيل له أيضا: (1/234)، وشرح المختصر للزرقاني: (1/447)، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير: (1/304)، وحاشية الصاوي على الشرح الصغير: (1/387).
(3) وفي جمع الجوامع للسبكي: "والتأويل: حمل الظاهر على المحتمل المرجوح؛ فان حمل لدليل فصحيح، أو لما يُظَنُّ دليلا ففاسد، أو لا لشيء فلعب لا تأويل". حاشية العطار على شرح المحلي لجمع الجوامع (2/88).
(4) دلالة الالتزام هي: دلالة اللفظ على المعنى اللازم لمعناه، وتكون في مقابل دلالة المطابقة ودلالة التضمُّن؛ وفي جمع الجوامع للسبكي: "ودلالة اللفظ على معناه: مطابقة، وعلى جزئه: تضمُّن، ولازمة الذهني: التزام". حاشية العطار على شرح المحلي لجمع الجوامع (1/312).
(5) المنطوق في علم الأصول هو: المعنى المستفاد من صريح اللفظ، وفي جمع الجوامع: "المنطوق: ما دل عليه اللفظ في محل النطق". حاشية العطار على شرح المحلي لجمع الجوامع: (1/306).
(6) دلالة المطابقة هي: دلالة اللفظ على معناه؛ وتسمى بذلك لمطابقة الدال للمدلول. حاشية العطار: (1/312).
(7) صحيح مسلم: كتاب المساجد: باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته: (رقم 537).
(8)السنن الكبرى للبيهقي: (4/561).
(9) سنن أبي داود: كتاب الصلاة: باب ما يجب على المؤذن من تعاهد الوقت: (رقم 517)، وسنن الترمذي: كتاب الصلاة: باب ما جاء أن الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن: (رقم 207).
(10) معالم السنن للخطابي: (1/156).
(11) المسالك في شرح موطأ مالك لابن العربي: (2/325).
(12) المعونة للقاضي عبد الوهاب: (ص: 239)، والجامع لابن يونس: (2/813)، والذخيرة للقرافي: (2/295).
(13) سنن الدارقطني: (2/212): (رقم 1413).
(14) السنن الكبرى للبيهقي: (4/561)، والتلخيص الحبير لابن حجر: (2/12)، وبلوغ المرام له أيضا: (ص: 159).
(15) سبل السلام للأمير الصنعاني: (1/310)، وإرواء الغليل للألباني: (2/132).
(16) انظر: بلوغ المرام من أدلة الأحكام لابن حجر: (ص: 159)، وإرواء الغليل للألباني: (2/132).
(17) الأوسط في السنن والإجماع لابن المنذر: (3/321)، والإقناع في مسائل الإجماع لابن القطان: (1/154).
(18) سبل السلام للأمير الصنعاني: (1/310).
(19) المدونة لسحنون: (1/219).
(20) كفاية الطالب الرباني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني: (1/ 310).
(21) الْقَدْوَة بفتح القاف بمعنى: الاقتداء، وأما الشخص المقتدى به فهو مثلث القاف. من الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي: (1/291).
(22) الدر الثمين شرح منظومة المرشد المعين لميارة: (ص: 340).
(23) انظر: الأصل المبسوط للشيباني الحنفي: (1/388)، ومنهاج الطالبين للنووي: الشافعي: (ص: 34)، والمغني لابن قدامة الحنبلي: (2/32).
(24) إرواء الغليل للألباني: (2/132).
خادمكم عبد الله بنطاهر السوسي التناني
يوم السبت 8 رجب 1442هـ 20 / 2 / 2021م
مسجد الإمام البخاري عمالة أكادير إداوتنان جنوب المغرب
